1. هجر الثلاثة المخلفين وتألف الأعراب

    يقول رحمه الله: "والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألَّف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم".
    أي: أن الثلاثة الذين خلِّفوا لن يرجعوا عن الدين مهما كان، بل الهجر يزيدهم خوفاً، كما كان واقع حالهم من بكائهم، وما غشيهم من الهمِّ والكرب، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في وجوههم، وهجرهم أحبُّ الناس إليهم ممن يعرف صدقهم وإيمانهم، ومع ذلك لم يزدهم ذلك إلا خوفاً وخشيةً وطمعاً في توبة الله عليهم، ولما أرسل ملك الغساسنة إلى كعب بن مالك يرغبه باللحاق به، سجر بكتابه التنور، فأمثال هؤلاء لا يخشى عليهم.
    لكن المؤلَّفة قلوبهم، لو أغضبوا أو هجروا فإنهم قد يرتدون؛ لأن ضعيف الإيمان يستجيب لعدوه وعدو دينه؛ لأنه قابل للفتنة، لذلك لا يهجر؛ بل يتألف حتى يدخل في الإسلام أمثاله من المؤلفة قلوبهم، أما من كان حاله كحال هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم فالواحد منهم يعرف الحق ويعلمه، فيعاقب ليرتدع ويرتدع أمثاله من المؤمنين.
    أما المؤلفة قلوبهم فيتألفون، فمثلاً لو سمع الأعراب بأن شيخاً من مشايخ بني تميم أو غيرهم أُعطي مائة ناقة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري، فستجد كل شيخ من شيوخ الأعراب.. يقول: نسلم لنأخذ مثلهم، فيدخل في الإسلام وتُسلم القبيلة، وربما هدى الله تعالى القبيلة أو كثيراً منها عن إيمانٍ ويقين، وإن كان الشيخ أسلم من أجل الشاة والبعير والدرهم والدينار، ثم يصلح الله حاله ويحسن إيمانه، فهنا تحصل المصلحة للإسلام والمسلمين بهذا التأليف بخلاف الهجر.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلَّفة قلوبهم، لمَّا كان أولئك سادةً مطاعين في عشائرهم، فقد كانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عزُّ الدين وتطهيرهم من ذنوبهم". يعني: أن الثلاثة وأمثالهم كان في هجرهم عز للدين، وتطهيرٌ لهم من الذنب، فعز الدين بأن يشعر الناس أن هذا الدين متين، وأن هذا الدين ليس لكل من ادعاه، وليس بالنفاق ولا بالدعاوى ولا بالشعارات الزائفة، وإنما هو جهاد وصبر وتضحية، إذ كيف يرغبون بأنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يتخلفون عن ركبٍ يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركون الجهاد معه؟! فهجر هؤلاء فيه مصلحة للمؤمنين.
  2. قتال الكفار وتركه حسب المصلحة في العهد النبوي

    يقول رحمه الله: "وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارةً، والمهادنة تارةً، وأخذ الجزية تارةً، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح".
    وتجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دائماً يمثل بالمثال الآتي، وذلك لأن واجب العلماء والدعاة مثل واجب المجاهدين. ونذكر كلامه رحمه الله للفائدة، يقول رحمه الله (28/188): "ترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم". أي: قد يكون الأفضل في قتال العدو هو الإثخان في الأرض والقتل، كما في يوم بدر، فهذا كان الأفضل، وهو الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ فقال: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ))[الأنفال:67]، وقد تكون المهادنة أو المصالحة أفضل، كما كان ذلك في عام الحديبية، وأخذ الجزية قد يكون أفضل، وهذا ما فعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع بعض أهل الكتاب؛ فإن أهل الكتاب إذا عقد لهم عقد الذمة وأخذت منهم الجزية، أتيح لهم أن يسمعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن دينه؛ وهم يعرفون صفته صلى الله عليه وسلم، كما في كتابهم، وعندهم قابلية للتديُّن، لكنهم يتدينون على ضلال، فلو سمعوا الحق لآمنوا وأذعنوا، فتكون المصلحة في أخذ الجزية منهم.
  3. قصة نور الدين زنكي في أسر ملك الألمان والعمل بالمصلحة

    والمقصود أن يُقدر الأمر بحسب المصلحة التي يراها الناس، ولنا مثل في سيرة نور الدين الشهيد رحمه الله، الذي هزم الله سبحانه وتعالى على يديه الصليبيين، فعندما أُسر ملك الألمان، احتار فيه نور الدين وقواده، هل يقتلونه أو يطلقونه بمالٍ عظيم، فنظروا فإذا هم بحاجة إلى المال؛ لأن نور الدين رحمه الله ألغى المكوس والضرائب، وقال: كيف ننتصر عليهم ونحن نأخذ المكوس ونأخذ الضرائب؟! فقال: والله لو لم يبق في بيت المال شيء؛ فإنا لا نغلب أعداءنا إلا بطاعة الله، فترك المكوس فقلَّ ما في بيت المال فاحتار، وملك الألمان يعرض عليه فدية كبيرة، ولكنه يخشى إن أطلقه أن يأتيهم بعد حين بجيش عظيم فيقول: يا ليتنا قتلناه، ففكَّر واستخار، فأراد الله تبارك وتعالى له الخير، فأطلقه بعد أن أخذ منه مالاً عظيماً جداً ورجع إلى بلاده، وما أن وصل إلى بلاده وبدأ يؤلِّبهم ويجمعهم ليعودوا إلى أرض المسلمين، حتى أهلكه الله عز وجل، فتفاءل المسلمون وفرحوا، فقالوا: جمع الله لنا بين الحسنيين، أخذنا ماله ومات.
    إذاً: فيُنظر حيثما تكون المصلحة، والله تعالى لن يضيع هذه الأمة إن اجتهدت في طلب الخير والحق.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وجواب الأئمة كـأحمد وغيره في هذا الباب مبنيٌ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق ...".
    الإمام أحمد جعله الله تعالى عَلماً لـأهل السنة، وجعل كلامه في أهل البدع كالسيف القاطع، من قال فيه الإمام أحمد : نعم؛ ارتفع إلى قيام الساعة، ومن قال فيه: لا؛ سقط إلى قيام الساعة، فقد جعله الله فيصلاً وجعل كلامه فرقاناً بصبره وثباته على الحق، فرضي الله تعالى عنه.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان رحمه الله يفرِّق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بـخراسان والتشيع في الكوفة، وبين ما ليس كذلك"، أي: أن التنجيم انتشر في خراسان والمناطق المجاورة لها، وقد ألف الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية في زمانه- ألَّف كتاباً اسمه: (السر المكتوم في مخاطبة النجوم ).
    فقد فرق الإمام أحمد، والمعنى أنه لو وجد شيعي يدعو إلى بدعته في المدينة النبوية، وهي البقعة التي بقيت هي ومكة أنظف البلاد عن البدع؛ لظهور آثار النبوة فيهما؛ ولأن فيهما أولاد الصحابة، لا سيما في المدينة، التي فيها المهاجرون والأنصار والتابعون الذين تتلمذوا عليهم، ثم تلاميذهم، فكانت أقلَّ البلاد احتواء لأهل البدع.
    يقول شيخ الإسلام : "ويُفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم" يُفرَّق بين الإمام المطاع المتَّبع من أهل البدع وبين غيره، قال: "وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه" فالمهم أن تنظر إلى مقصد الشرع، ثم تسلك أوصل وأقصر وأفضل الطرق التي تؤدي إليه، أي: أن الحكمة هي فهم مقاصد الشرع، ثم إنزال النصوص عليها وأخذ كل حالةٍ بحسبها، وهناك مشكلة تواجه كثيراً من الدعاة، فهم يعرفون الحق ويقولونه، ويلتزمون منهج السلف في الاعتقاد، وفي الدعوة والعلم، لكن ينقصهم إنزال هذا العلم على واقعه الصحيح.